للماذا يشعر قادة إسرائيل بهذا الفائضٍ الكبير من القوّة؟ وهل ستستمر حربهم ضدّ إيران (ولو بأشكال مختلفة) كما يصرحون إلى حين تحقيق هدف إسرائيل الاستراتيجي بإسقاط نظام الحكم فيها، وهل أصبحت الآن الأجواء الإيرانية تحت سيطرة سلاح جيش الاحتلال الإسرائيلي كما هو حال لبنان وسوريا والعراق، أم إنّ إيران ستردّ بقوّة كما ردّت سابقًا خلال حرب الاثني عشر يومًا بقصف تل أبيب وغيرها من المدن المحتلّة؟ هل ستتوسع مطامع إسرائيل باتجاه دول أخرى في المنطقة، أم ستكون الاتفاقيات الابراهيمية التي حكى عنها الرئيس ترامب هي الجائزة النهائية لإسرائيل على تقليم أظافر إيران؟ هل سينتج عن هذه الحرب تعزيز وجود إسرائيل وتقوية دورها الوظيفي الذي أنشأت لأجله أساسًا، وهل نحن الآن أمام تغيّر في موقع إسرائيل ضمن العالم الجديد، خاصة بعد أن طالب الرئيس ترامب إيقاف محاكمة نتنياهو باعتباره بطلًا قوميًا يهوديًا صنع لإسرائيل ما لم يصنعه غيره؟ وهل تغيّر بعض الدول الأوروبية موقفها من إسرائيل بعد إنجاز مهمّة تحطيم البرنامج النووي الإيراني، أو على الأقل تحجيمه، وهو الذي عجزت عنه المفاوضات التي استمرّت سنين طوال؟ وهل تتغير مواقف هذه الدول من القضية الفلسطينية ومن موضوعة حل الدولتين؟
استمد الإسرائيليون قوتهم وشعورهم بفائض القوّة هذا من الدعم الأمريكي والأوروبي الهائل وغير المحدود بعد عملية طوفان الأقصى. ثمّ هناك الضعف الواضح في إيران ومحورها بعد تقليم أظافرها في لبنان وسوريا واليمن، وهناك أيضًا المحيط العربي غير المتّحد في رؤيته لأمنه القومي، بل والذي يعتمد في بعض الدول على علاقة مميزة مع إسرائيل ذاتها. مع ذلك، يتجاهل الإسرائيليون قراءة مؤشرات عديدة في الواقع الآن، خاصّة التغيّر البطيء، لكن المتواتر، في الرأي العام الغربي تجاههم. لا يمكن الالتفات عن التحوّلات في بعض السلوكيات الغربية، الأمريكية والأوروبية، والمواقف السياسية التي بدأت تظهر للعلن تجاه إسرائيل بشكل لافت للنظر مهما كانت طفيفة. هذه الدولة التي بدأت وجودها بدعم هائل من الأوروبيين للخلاص من عقدة الذنب، ولتصدير المشكلة اليهودية خارج حدود أوروبا، بدأت تشكّل خطرًا ليس على أصحاب الأرض الأصليين فقط، ولا على جيرانها الإقليميين فحسب، بل وعلى ذاتها من جهة، وعلى الدول التي أنشأتها ورعتها خلال العقود الطوال الماضية أيضًا من جهة ثانية. فدولة بهذا الحجم الصغير، والتي تمارس أبشع أنواع الإبادة الجماعية في غزّة، والتي تنكّل بالفلسطينيين في الضفة الغربية وتدعم قطعان المستوطنين في حربهم المتطرفة ضدهم، وتحاول جماعات اليمين المتطرّف هدم مؤسساتها التي قامت على توازن يحفظ توزيع السلطة بين هياكلها ويضبطها داخليًا لخدمة المشروع الاستيطاني، دولة تذهب بهذه الاتجاهات المتطرفة غير المعقولة لن تكون قادرة على الاستمرار إلى الأبد، ولا على الحياة الطبيعية في منافسة عادية مع جيرانها في هذا العالم.
يُشيح قادة إسرائيل النظر عن الاستنكار العالمي الشعبي لجرائم الإبادة التي يقوم بها جيشهم، ورغم صدور مذكرة اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية بحق نتنياهو ووزير دفاعه الأسبق، ورغم صدور قرارات تمهيدية من محكمة العدل الدولية تلزم إسرائيل بمنع أسباب الإبادة الجماعية، فإنّ عنجهيتهم لم تتوقف عن النمو والغلو. لكنّ هذا ليس هو الواقع كاملاً ولا الصورة الوحيدة. هناك أولًا النظرة الأمريكية الجديدة للعالم، والتي يبدو أنّها بدأت تتبلور رويدًا رويدًا وتتضح معالمها الخارجية من خلال التغييرات الكبيرة في الموقف من سوريا. هذه الانعطافة الخارقة للمألوف والسائد من جهة، وهذه الحماسة للتعامل مع القادة السوريين الجدد، ليستا حدثًا عابرًا ولا منفصلًا عمّا حوله. إنّه عالم جديد يتشكّل، والشرق الأوسط في القلب منه، وهذا سيطال إسرائيل ودورها بلا أدنى ريب. حتى الرئيس ترامب ليس هو ذاته الذي منح إسرائيل اعتراف بلاده بضم الجولان المحتل، ولا هو ذاته الذي نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، لقد تغيّر الرجل وتغيّرت الظروف، وهو بكل الأحوال يفضّل تفكيك البرنامج النووي الإيراني بالمفاوضات والضغوط بعد الضربة السريعة التي وجهتها طائراته للمفاعلات النووية الإيرانية، وما قراره المفاجئ وقف الحرب والذهاب إلى فرض السلام إلا مؤشرًا آخر على تغيرٍ جذري في التوجه الأمريكي نحو العالم كله.
ثمّ هناك الفاعلين الإقليميين الأساسيين، أي السعودية وتركيا وقطر والإمارات، ومصر نوعًا ما، وهذه رغم التباين الجزئي في مواقفها من القضية الفلسطينية وفي مصالحها الخاصة ضمن المنظومة العالمية الجديدة التي هي قيد التشكّل، إلا أنها تشترك في العموم بضرورة تغيير قواعد اللعبة وأدواتها. كل هؤلاء الفاعلين الإقليميين يريدون للعنف أن يتوقف، ويريدون للتطرّف أن ينتهي، وتطرّف إسرائيل ويمينها العنصري ليسا خارج حساباتهم أبدًا. وهناك الفاعل الإيراني الذي بدأت تظهر عليه ملامح الشيخوخة والهرم، خاصّة بعد مرحلة ظنّ فيها أنّه صار ندًّا للكبار وليس فقط لاعبًا إقليميًا أساسيًا. هذا الفاعل / المفعول به لا يزال قائمًا رغم كل خساراته، وإن كان حضوره ليس من باب التأثير الكبير خارج حدوده، إلا أنّ وزنه النوعي وثقله الديمغرافي وتشابكات علاقاته مع المنافسين الدوليين، الروس والصينيين خاصّة، يبقى محسوبًا في موازين القوى المؤثرة. يكفي أن نقرأ الضرر الذي سببته الصواريخ الإيرانية في اقتصاد إسرائيل وفي قناعات سكانها التي بدأت تتزعزع بعد السابع من أكتوبر 2023، ورغم السيطرة الكاملة لسلاح الجو الإسرائيلي على سماء إيران، إلا أنّ الصواريخ الإيرانية ما فتئت تنهمر على المدن وعلى بعض الأماكن الحساسة فيها.
مع سقوط نظام الأسد تنبّه الإسرائيليون لحجم الفراغ الذي حصل والذي ساهموا هم بإحداثه بشكل كبير وفعّال. لقد كان النصر الإسرائيلي على إيران في الساحتين السورية واللبنانية تعويضًا ماديًا ومعنويًا لهزيمتها الأخلاقية في غزّة. لكنّ السياسة كالفيزياء لا تقبل الفراغ، وكان لا بدّ أن يتمّ ملؤه في المنطقة بقوّة وبسرعة، وهنا تدخّل الأتراك والعرب الخليجيون. هذا سيعني من حيث النتيجة تغيّرًا حقيقيًا في المرجعيات والاصطفافات والأحلاف، وهنا لا بدّ من حضور العامل الأبرز في حسابات الدول، أي اعتبارات الأمن القومي التي تتقاطع حينًا وتتعارض أحيانًا أكثر. تأتي فيما بعد المصالح الاقتصادية والثقافية وغيرها، لتشكّل بمجموعها البعد الاستراتيجي لكل دولة على حدة وللإقليم بأسره. ثم هناك المصالح الأوروبية التي تتعارض مع نهج الحروب والعنف في الشرق الأوسط، ليس خوفًا على أهله، بل خوفًا منهم لأنهم سينتقلون إلى أوروبا عند وقوع الاضطرابات التي يحاول الجميع تفاديها.
وفق هذه الخارطة المتحركة من موازين القوى والمصالح والحسابات، نجد أنّ أدوار جميع اللاعبين ستتغير في المنطقة، فوجه المنطقة اختلف كثيرًا بعد الحرب الأخيرة عمّا كان عليه، وساحات المواجهة بين إسرائيل وإيران باتت على أراضي كل منهما وليس على أراضي الآخرين كما كان سابقًا. كما إنّ العلاقات مع الشرق الأوسط كلّه ستأخذ أشكالًا جديدة من التعامل، وقد تكون الاتفاقات الإبراهيمية أحد أشكال تقاسم المصالح وتوزيع الأدوار في المنطقة، وقد ينتج عنها دولة فلسطينية بالحدود المقبولة للأطراف جميعًا. لكن هل ستثق الدول الطبيعية في المنطقة بهذا المنطق الاستعلائي الذي تتعامل به إسرائيل معهم، وهل ستزول مخاوفها من توسّع شهيتها الطاغية بالهيمنة على المنطقة بالقوّة العارية؟ لا أحد يتوقع ذلك، والأيام هي الحكم.
في 3/7/2025
حسا
ن الأسود