نزار الشرع
عضو المجلس السوري للتغيير
يكتب لموقعنا في التحالف السوري الديمقراطي

عبر التاريخ، لم تكن المجتمعات سوى مسرحًا لتقلبات الأنظمة التي رفعت شعارات أيديولوجية كأسيجة تحمي سلطتها، سواء كانت تلك الشعارات مُقدسة أو مدنية.

في العصور الوسطى الأوروبية، لم تكن هيمنة الكنيسة مجرد سيطرة دينية، بل تحولت إلى آلة لاختزال الواقع في قوالب عقائدية، حيث صُبغت القرارات السياسية بصبغة إلهية، وتحولت المعارضة إلى خروج عن “المشيئة السماوية”.إلا أنّ هذا الانفصال عن تعقيدات الحياة اليومية لم يكن مقصورًا على الكنيسة؛ فحينما تتحول الأيديولوجيا إلى سرابٍ يسبق الواقع، تسقط الأنظمة تحت وطأة جمودها، كما حدث مع الاتحاد السوفيتي الذي انكسر أمام تحولات العولمة، أو تجربة فنزويلا التي حاولت فرض نموذج زراعي شمولي فوق أرضٍ لم تكن مستعدة لاستقباله.

عندما يصعد الأيديولوجيون إلى سدة الحكم، فسرعان ما تتبدد وعودهم الذهبية أمام أول اختبار عملي ذلك أن الفجوة بين الخطاب العاطفي المُحمَّل بالشعارات وبين تعقيدات إدارة الدولة ما تلبث أن تتحول إلى هوة تبتلع أحلامهم. فمنذ سنوات قليلة استطاع الاخوان المسلمون في مصر الوصول الى ما كان في يوم من الأيام حلما مستحيلًا، إلا أن الإخوان لم يدركوا أن خطابهم الديني المُلهِم لن يُطعم شعبًا يعاني من الفقر، ولن يحل أزمات البنية التحتية المهترئة، فسقطوا في أول اختبار شعبي، وفاز الانقلابيون الذين أعادوا البلاد الى ما يقال عنه أسوأ من عهد مبارك. أما بول بوت في كمبوديا، فكانت أيديولوجيته الاشتراكية المتطرفة مجرد غطاء لواحد من أبشع المشاريع الوحشية في القرن العشرين، حيث تحولت اليوتوبيا الزراعية إلى مقبرة جماعية. وهنا يظهر السؤال المحوري: هل الفشل قدر حتمي لكل نطام حكم أيديولوجي؟

التاريخ لا يؤكد ذلك، لكنه يشترط أن تكون الأيديولوجيا جسرًا نحو الواقع، لا سجنًا يُنكِّل به ليتطابق معها. إذ ليست كل التجارب مرسومة باللونين الأسود والأبيض. ففي تركيا على سبيل المثال، استطاع حزب العدالة والتنمية أن ينسج خيطًا رفيعًا بين الخطاب الإسلامي والسياسات الاقتصادية الواقعية، محققًا نموًا أثار إعجاب الخصوم قبل المؤيدين، رغم الثمن الديمقراطي الباهظ. وفي الدول الاسكندنافية، أثبتت الاشتراكية الديمقراطية أنها ليست مجرد حلم مثالي، بل نموذجًا عمليًا لموازنة السوق الحرة مع العدالة الاجتماعية. هذه النماذج لم ترفض الأيديولوجيا، بل حوّلتها إلى أدوات مرنة، تتعامل مع الواقع كشريك لا كعدو.

إن الفرق الجوهري بين السياسي والأيديولوجي هو في الحقيقة كالفرق بين المهندس والشاعر. الأول يبني جسورًا فوق الأنهار الهائجة، بينما الثاني يصمم قصورًا في السماء. وقد وصف ماكس فيبر السياسي الناجح بأنه “هو من يمتلك شغف المبدأ لكنه لا يفقد البوصلة العملية. فهو يعرف أن السلطة ليست منصةً للوعظ، بل ساحة لإدارة المصالح المتضاربة، وترميم التناقضات دون ادعاء حلّها نهائيًا. أما الأيديولوجي المتشدد، فيتعامل مع السلطة كمنبر لتحقيق نبوءاته، مُعتقدًا أن الواقع مادة خام ينبغي تشكيلها بقوة الإرادة، حتى لو أدى ذلك إلى تشويهها.”

رغم ذلك، لا يمكن إنكار أن بعض الأيديولوجيات استطاعت النجاة من مصيرها المحتوم عبر المراجعة الذكية. ففي الهند، تحوّل حزب المؤتمر من خطاب اشتراكي صرف إلى سياسات أكثر مرونة، مستفيدًا من تحالفات غير متوقعة مع خصومه. وفي جنوب إفريقيا، اختار مانديلا أن يكون رئيسًا للجميع، لا زعيمًا للمظلومين فقط، فحوّل الانتقام إلى مصالحة، واليوتوبيا إلى دستور. هذه النماذج لم تتخل عن مبادئها، بل اكتشفت أن الأيديولوجيا لا تنمو إلا في تربة الواقع، لا في سماء الأحلام.

وهنا يظهر جليا أن سر البقاء لا يكمن في التخلي عن الأيديولوجيا، بل في تحريرها من سجن الجمود. فالخطط الاقتصادية الواقعية، وإشراك الخبراء، وتجنب الخطابات الصدامية، ليست سوى أدوات لتحويل الشعارات إلى سياسات. عندما تعاملت السويد مع جائحة كورونا، لم تكن قكرة مناعة القطيع التي تحدث بها يوهان كارلسون سوى تعبير عن أيديولوجيا مختلفة: أخلاق السلطة لا أخلاق الشعارات. وهذا بالضبط ما يجعل بعض التجارب تنجح حيث فشل غيرها وذلك في القدرة على رؤية الأيديولوجيا كوسيلة، لا كغاية.

إن التاريخ لا يحكم على الأيديولوجيات بالفشل، بل يحكم على من يسجنون أنفسهم داخل يقينياتهم. النماذج التي استمرت لم تكن تلك التي قلبت الواقع رأسًا على عقب، بل التي فهمت أن السياسة فن الممكن، والأيديولوجيا روح تُحييه لا سيفٌ يقطع رأسه. فكما أن النهر لا يصب في البحر إلا إذا انحنى بين الصخور، فإن الأيديولوجيا لا تصل إلى شاطئ الواقع إلا إذا تعلمت الانحناء.