من بين أنقاض الجغرافيا المتكسّرة، ومن بين هشيم الذكرى المنكوبة، تسأل سوريا سؤالها القديم الجديد: كيف لبلاد أن تُولد من رمادها دون أن تكرر احتراقها؟ في صمت المدن المعلقة بين ما كان وما قد يكون، تتكلم الأرض قبل الناس: لقد جُرّبت كل الواجهات، وسُفكت كل الذرائع، ولم تبقَ إلا الحقيقة العارية: إما دولة تحمي الجميع، أو لا دولة.

 

لم يعد سؤال السوريين: من يحكم؟ بل: كيف نُحكم؟ بأي منطق، وبأي عقد، وتحت أي سماء من القيم؟ لقد تهشّمت الأساطير القديمة، وسقطت الأقنعة التي لبست وجوه الآلهة، وباتت كل سلطة بلا عقد اجتماعي شفاف، مجرّد اجتهاد سلطوي باسم القوة أو العقيدة أو الاصطفاء. من هنا، تبدأ الدولة المدنية في التشكّل، لا كنظرية دخيلة، بل كملاذ أخير لبقاء المجتمع نفسه.

 

الدولة المدنية ليست حيادية تجاه الفوضى، بل هي التي تفرض منطقها ضد الغلبة، وتوازنها ضد الاحتكار. هي التي تجعل السياسة فنًا لإدارة الاختلاف، لا ساحة لتصفيات أبدية. إنها، كما قال مونتسكيو، “قيد القوة بالقانون، لا إطلاقها باسم الحق الإلهي أو التاريخي”.

 

في سوريا، لم تكن الطائفية فقط عقيدة، بل منظومة إنتاج خوف. هذا الخوف الذي يبدأ من اللغة، ويتسرّب إلى الجسد، ثم يثبّت نفسه في ذاكرة الجماعة. ومن هناك، يتحوّل الخوف إلى سلوك سياسي، إلى سياسة أمنية، إلى تحالفات تقف ضد الزمن. الطائفية لا تولّد دولًا، بل تولّد أشباه دول، تبقى متأهبة للانفجار، لأنها مبنية على شراكة التوجّس لا على عقد الثقة.

 

إن أول ما تفعله الدولة المدنية هو تفكيك هذا الإرث المعقّد: لا بإقصاء الجماعات، بل بإقصاء منطق الجماعة كمرجعية سياسية. تُعيد بناء المواطن لا على أساس ما يؤمن به، بل ما يساهم به. ولتحقيق ذلك، لا يكفي أن نُدين الطائفية، بل يجب أن نزعزع منطقها، من خلال قانونٍ واحدٍ للجميع، ومؤسسات لا تحابي اسماً ولا تبارك طائفة.

 

لكن الحديث عن القانون والدستور يبدو مثالياً إن لم نُعالج المصدر الأخطر للانقسام: السلاح. لأن وجود أكثر من حامل للسلاح هو وجود أكثر من مشروع لدولة داخل الدولة، وأكثر من ولاء يعطّل قيام أي عقد وطني جامع. السلاح المنفلت لا يعبّر عن القوة، بل عن هشاشة الدولة، وعن غياب الثقة بها.

 

لقد شهد التاريخ القريب نماذج مأساوية كانت ضحية لفوضى السلاح. في لبنان، تحوّلت البنادق غير المنضبطة إلى أدوات لجرّ البلاد إلى حرب أهلية استمرت أكثر من 15 عامًا، حيث لم يعد السلاح حماية، بل صار لعنة تنقلب على من يرفعه. وفي ليبيا، تحوّلت الثورة إلى أزمة دائمة لأن السلاح لم يُجمع، بل تُرك لينتج ميليشيات تقضم الدولة قطعة قطعة. أما الصومال، فقد صار مثالًا صارخاً على أن السلاح بلا سيادة يُنتج دولة بلا وجه.

 

لذلك فإن التعامل مع هذا الملف لا يحتمل التأجيل ولا التبرير. أولى خطوات السلام هي تفكيك أسباب الحرب. وبدلاً من النقاش المجرد حول “من يحمل السلاح ولماذا”، يجب الانطلاق من مبدأ واضح: لا شرعية لأي سلاح لا يخضع لسلطة القانون. ويبدأ ذلك عبر حصر السلاح في يد الدولة، ولكن ليس دفعة واحدة، بل عبر استراتيجية ذكية تُفرّق بين من يحمل السلاح للتهديد، ومن يحمله للخشية. فليس كل سلاح مرفوع هو مشروع تمرّد، وليس كل من تسلّح مجرماً. هناك من رفع السلاح لأن الدولة غابت، ولأن الحماية أصبحت ذاتية في غياب القانون. إن تسوية هذا الملف تتطلب حساسية بالغة، تقوم على التدرج والثقة المتبادلة.

 

ولهذا فإن البداية يجب أن تكون من أولئك الذين يستخدمون السلاح كأداة فرض، كوسيلة تهديد لابتزاز المجتمع أو الدولة. هؤلاء يُقوّضون السلم الأهلي بشكل مباشر، ويحوّلون السياسة إلى رهينة. سحب السلاح منهم ليس فقط ضرورة أمنية، بل هو رسالة واضحة بأن الدولة لن تتسامح مع من يصنع سلطته بالحديد والنار.

 

أما من لجأ إلى السلاح بدافع الحماية أو كردّ فعل على غياب العدالة، فإن معالجة وضعه يجب أن تمر أولاً بإعادة بناء الثقة. فحين يرى الناس أن الدولة استعادت هيبتها، وأن من يهدد يُجرد أولًا، وأن العدل ليس شعاراً، بل ممارسة، حينها فقط تسقط الحاجة الذاتية للسلاح. إن نزع سلاح الخائف لا يتم بالوعيد، بل بخلق بيئة لا تستدعي الخوف.

 

فالأمان الحقيقي يبدأ حين تصبح البندقية غير ضرورية، لا لأن القانون أقوى فحسب، بل لأن المجتمع نفسه أصبح شبكة أمان بديلة، ولأن الانتماء للوطن غدا أقوى من الانتماء للبندقية.

 

لا نهوض لاقتصاد تُخيم عليه رايات الجماعات، ولا بناء لمدرسة تُحيط بها الحواجز، ولا معنى لصندوق اقتراع يُشهر فوقه السلاح. الأمن يبدأ من وضوح السيادة، والسيادة تبدأ من جيش واحد لا يعرف الطاعة إلا للدستور.

 

وإذا كانت البندقية خطراً، فإن المقدّس حين يتحوّل إلى أداة سلطة، لا يقل عنها خطراً. الدين، حين ينزاح من موقعه الأخلاقي إلى موقعه التنفيذي، يتورّط في صراعات تُشوّه رسالته. لهذا، فإن واحدة من أهم مهام الدولة المدنية هي تحرير الدين من السياسة، وتحويل السياسة إلى حقل بشري صرف، يمكن مساءلته ونقده.

 

حين يتحول رجل الدين إلى زعيم سياسي، يتصدع الحاجز بين القداسة والمصلحة، وتضيع معايير الحساب. فالدين بطبيعته يقوم على المطلق، والسياسة بطبيعتها تقوم على التفاوض. وحين يدخل المطلق حلبة المساومة، تتحوّل القيم إلى أدوات، ويُصبح الخلاف خيانة، والمعارضة كفراً. عندها، لا يُسمح بالخطأ ولا يُقبل التعدد، لأن الحاكم صار مقدّساً، والمعارضة صارت خروجًا عن الملة.

 

إن تحويل الدين من مصدرٍ للقيم إلى أداة تنفيذية يُجفف روحه ويُسيّجه بالدم. في إيران، أدى اختزال السلطة في ولاية الفقيه إلى إغلاق الحياة السياسية على طيف ضيق، حيث أصبح التشكيك في قرار الدولة مساوياً للتشكيك في العقيدة. في السودان، كان رفع الشعار الإسلامي غطاءً لحكم شمولي مزّق النسيج الاجتماعي، ولم يسقط إلا بثمن فادح. وحتى في أوروبا، كان تديين الحكم في القرون الوسطى سبباً مباشراً لحروب دينية طويلة، حتى جاءت الحداثة لتفصل بين المجالين لا عداءً للدين، بل إنقاذاً له.

 

الخلط بين الدين والدولة يُنتج سلطة لا تُحاسب، لأنها تستمد شرعيتها من السماء لا من الناس. وفي مثل هذه السلطة، لا يمكن للمعارضة أن تكون سلمية، لأنها لا تواجه قراراً إدارياً، بل مواجهة يُراد لها أن تبدو كفراً بالقيم الأسمى. عندها لا تعود السياسة تنافس برامج، بل معارك خلاص. وهنا مكمن الخطر.

 

لذلك، فإن واحدة من أهم مهام الدولة المدنية هي تحرير الدين من السياسة، وتحويل السياسة إلى حقل بشري صرف، يمكن مساءلته ونقده. فصل الدين عن الحكم ليس رفضاً للإيمان، بل حفاظاً عليه من التشوّه. وحين يُعاد الدين إلى موقعه الطبيعي، يصبح سلطة أخلاقية تسمو فوق الممارسة اليومية، لا وسيلة في صراع الصلاحيات.

 

وهذا لا يعني تحجيم الدين، بل حمايته من التسييس. الدولة المدنية تُبقي الإيمان في سموّه، فلا تُفرغه من روحه بتحويله إلى مشروع حزبي. السياسة تحتاج إلى العقل، لا إلى العصمة. والإيمان بالحق لا يحتاج إلى برلمان ليثبته، ولا إلى ميليشيا لتحميه.

 

وفي هذا السياق، تبرز الحاجة الماسّة إلى ضبط الخطاب الديني، لا تكميماً له، بل تقويماً لوظيفته. لأن المنابر حين تُترك دون ميثاق أخلاقي وقانوني، تتحوّل إلى منصات تعبئة طائفية تحقن الوعي بالكراهية. وقد رأينا، كيف يمكن لخطبة واحدة أن تُطلق شرارة مجازر. الكلمة التي تُقال باسم الله، حين لا تُضبط، يمكن أن تفتك أكثر من الرصاص.

 

لذلك، فإن بناء منظومة تشريعية تُراقب وتُحاسب الخطاب الديني هو من صميم حفظ السلم الأهلي. يجب أن يُجرَّم التحريض على الكراهية، سواء جاء من إمام مسجد أو منبر إعلامي أو صفحة افتراضية. ويجب أن تُصاغ معايير واضحة للخطاب الديني العام، ترتكز على احترام التعدد، والتأكيد على المواطنة، وتجريم تكفير الآخر أو التشكيك في انتمائه الوطني.

 

التحديات هنا كبيرة، أولها أن بعض المؤسسات الدينية قد ترى في ذلك تقييداً للحرية، أو تدخلاً في العقيدة. لكن الحقيقة أن الحرية لا تعني نشر السمّ الفكري، كما أن العقيدة لا تُحمى بالتحريض. وثانيها أن هناك من يستثمر في الخطاب المنفلت سياسياً ليُبقي التوتر قائماً، وليبرر وجوده كحامٍ من خصم اخترعه.

 

آلية العلاج تبدأ من التمييز بين الدين كقيمة عليا، والخطاب الديني كمنتَج بشري قابل للمراجعة والنقد. ثم بربط هذا الخطاب بمنظومة مدنية تشريعية رقابية، دون أن تمس جوهر الإيمان، بل تصونه من أن يتحوّل إلى أداة صراع. هنا تتقاطع التربية مع الإعلام مع القانون، لصياغة مناخ عام لا يمنع الدين، بل يمنع تحويله إلى قذيفة لفظية تُجهز على آخر ما تبقى من نسيج وطني. الدولة المدنية تُبقي الإيمان في سموّه، فلا تُفرغه من روحه بتحويله إلى مشروع حزبي.

 

وإذا كنا نعيد هندسة مفهوم الدولة، فإن ذلك لا يستقيم دون مصالحة حقيقية مع الذاكرة. لا مصالحة تبتلع الجريمة باسم التسامح، بل مصالحة تفضحها لتبني على جراحها عهداً جديداً. لأن المجتمعات لا تنهض على النسيان، بل على الاعتراف، ولا تُبنى بالسكون، بل بالمساءلة. والعدالة هنا ليست انتقاماً، بل شرط توازن، تضمن للضحايا صوتاً، وللجناة محكمة، وللمستقبل مساراً بلا ألغام.

 

العدالة الانتقالية ليست رفاهاً أخلاقياً، بل ضرورة سياسية لمنع تكرار المأساة. كل من تلوثت يداه بالدم أو التعذيب أو الفساد المنظم، يجب أن يُحال إلى القضاء، لا من باب التشفي، بل لتأكيد أن الكرامة لا تُدفن تحت مبدأ “العفو مقابل الاستقرار”. لقد أثبتت تجارب مثل جنوب أفريقيا، وتونس، وحتى المغرب، أن الحقيقة حين تُعلَن أمام الناس، تفتح الطريق أمام تصالح لا يُشبه الصفقات، بل يرسّخ ثقافة الحقوق.

 

لكن هذه المصالحة لا يمكن أن تكون انتقائية أو انتقامية. فهي لا تُبنى على الثأر من فئة دون أخرى، ولا على مسح ملفات فريق والإغراق في محاكمة سواه. العدالة الانتقالية الحقيقية تشمل الجميع: من أدار آلة القمع، ومن موّلها، ومن سكت عنها وهو قادر على فضحها. تشمل كل يد امتدت بالسوء، وكل لسان حرّض على الكراهية، وكل عقل سوّغ الانتهاك باسم النظام أو الدين أو الثورة.

 

إن سامحت الدولة دون مساءلة، فإنها تزرع في قلب مستقبلها بذور الانفجار القادم. وإن حاكمت دون معيار، فإنها تؤسس لجولة جديدة من الثأر المقنّع. وحدها العدالة المتوازنة، التي تُظهر الحقيقة وتضع ميزان القانون فوق الجميع، هي ما يضمن أن المصالحة ليست فصلاً في مسرحية، بل تأسيساً لحقبة جديدة حقاً.

 

هكذا فقط يمكن أن نستحق الغد: لا كضحايا ننجو بالصمت، ولا كجلادين ينجون بالنسيان، بل كمجتمع يعترف، ويغفر، ويُصلح دون أن ينسى.

 

لكن كل هذا يبقى معلقاً في الفراغ إن لم يُرفق بتجديدٍ عميقٍ للعقد الاجتماعي. ليس العقد بوصفه ورقة تُوقّع أو دستوراً يُدوّن، بل كتصوّر جديد للمواطنة والانتماء. فالحروب التي تمرّ بسوريا لم تكن فقط نزاعات على السلطة، بل على معنى الوطن نفسه. من نحن؟ وعلى ماذا نتّفق؟ ومتى يُصبح الفرد مواطناً لا رقماً في طائفة أو اسماً في دفتر عشيرة؟

 

العقد الاجتماعي الجديد لا يطلب من الناس أن ينسوا اختلافاتهم، بل أن يعلوا عليها بمنطق المشاركة لا الإقصاء. أن يربطهم القانون بدل العصبية، والحقوق لا الامتيازات. هذا العقد لا يُفرض من الأعلى، بل يُبنى من الحكايات الصغيرة اليومية: من المدرسة التي لا تُميز، من المخفر الذي لا يُهين، من الخدمة العامة التي لا تميّز بين الأسماء.

 

تجديد العقد الاجتماعي هو إعلان أن الدولة ليست عودة إلى ماضٍ متخيّل، بل انطلاقة إلى مستقبل مشترك. وحين يعجز هذا العقد عن صياغة شعور الانتماء، تبدأ الجماعات بتشييد ولاءاتها البديلة. وهذا هو الطريق السريع إلى التفكك: لا بانفجار الجغرافيا، بل بانكماش الروح العامة وانسحاب الأفراد إلى قوقعتهم الطائفية.

 

ولكيلا يبقى هذا العقد الجديد مجرّد صيغة أدبية، لا بد أن يُترجم إلى بنية سياسية مرنة، قادرة على احتواء التنوّع دون تفتيت، وضمان التمثيل دون إعادة إنتاج الهيمنة. هنا تبرز اللامركزية، لا كترف إداري، بل كآلية إنقاذ وطني. لقد أثبتت التجارب أن احتكار المركز لكل مفاصل القرار هو وصفة جاهزة للانفجار. بينما تُمكّن اللامركزية من إعادة توزيع السلطة بما يُشعر كل مكوّن أنه جزء أصيل من الكيان، لا ضيفاً فيه ولا تابعاً.

 

اللامركزية لا تعني التقسيم، بل تصحيح العلاقة بين الدولة ومواطنيها. إنها، في جوهرها، اعتراف بأن فهم احتياجات الناس لا يتم من بُعدٍ سلطوي، بل من قربٍ تشاركي. تمنح السلطات المحلية فرصة لصوغ حلول مصممة على قياس الواقع، بدل فرض نماذج مركزية جاهزة قد لا تناسب السياق. في ظل لامركزية رشيدة، لا يعود المواطن رقماً في إحصاء بيروقراطي، بل فاعلاً في تحديد مصيره ضمن مجتمعه.

 

تُصبح اللامركزية، حين تُنفذ بعقلانية وعدالة، درعاً واقية لوحدة الدولة من خطرين قاتلين: الاستبداد من الأعلى، والانفصال من الأطراف. ليست اللامركزية ترفاً تنظيرياً، بل استجابة سياسية واقعية حين تنهار مركزية الدولة، لا بفعل العدو الخارجي، بل بفعل الشلل الإداري والتمزق المجتمعي. حين تُصبح السلطة في المركز مشلولة أو مرفوضة أو محاصرة من أحد أطراف النزاع، فإن توسيع قاعدة القرار نحو المحيط لا يُضعف الدولة، بل يمنع انفراطها.

 

في سوريا اليوم، حيث تُرسم خطوط السيطرة الجغرافية فوق هشيم وطني، تصبح اللامركزية آلية واقعية لتوزيع السلطة بطريقة تمنع الانفصال دون أن تُجبر الأطراف على القبول بسيطرة غير مقبولة محلياً. إنها منهج لإعادة بناء الثقة من الأطراف إلى القلب، لا العكس. سياسياً، تسمح اللامركزية ببناء نماذج حكم مصغّرة، يمكن تجربتها وتقييمها، بعيداً عن الاستقطاب المركزي. إنها لا تُنهي الدولة، بل تُعيد تعريفها كمُيسّر، لا كمُحتكر. حين تُصبح البلديات والمجالس المحلية مسؤولة عن التعليم، والصحة، والخدمات، فإن المواطن لا يعود يرى الحكومة كجسم بعيد وغريب، بل كمرآة له.

 

اقتصادياً، تعني اللامركزية توازناً في التنمية. فبدل أن تُضخّ الموارد في العاصمة ثم تُقطّر للهوامش، تُمنح المناطق حق التخطيط والتنفيذ. الهند، مثلاً، لم تنجُ من تفككها الديمغرافي والديني إلا لأن ولاياتها تمتعت بحكم محلي واسع، سمح بإدارة الخصوصيات دون الإخلال بالسيادة العامة. وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية لم تُعد بناءها من المركز، بل من الولايات التي أخذت زمام المبادرة في التعليم والصناعة والحوكمة. أما لبنان، فرغم صغر مساحته، إلا أن غياب اللامركزية فيه أدى إلى مركز مثقل بالعجز، وطوائف تتمرّد لأنها لا ترى نفسها في قلب القرار.

 

وهنا تبرز قوة اللامركزية أيضاً في أنها تفتح المجال لتجارب حكم قابلة للرقابة والتطوير، وتقلل من احتمالية الفساد عبر توزيع مراكز القرار، وتعزّز الشفافية حين يكون المسؤول أقرب إلى من يخدمهم. كما تُخفف من وطأة الاحتقان السياسي، حين يشعر الجميع أن لديهم صوتاً وتأثيراً مباشراً، حتى لو لم يكن لهم تمثيل في مركز القرار الأعلى.

 

ولا بد هنا من الإشارة إلى أن أي لامركزية ناجحة لا بد أن تُربط بمنظومة قانونية واضحة تمنع تسلّط المحلي باسم الهوية، وتضمن أن تبقى السيادة موحّدة. فالهدف ليس خلق سلطات متوازية تتنازع، بل بناء سلطة واحدة تتوزع وظائفها بعدالة وكفاءة. إن سوريا الجديدة، بعد كل ما مرّت به، لا تحتمل العودة إلى المركزية القاهرة، ولا تحتمل الفوضى المبعثرة. تحتاج إلى دولة تشبه نسيجها: واحدة في سيادتها، متعددة في تمثيلها، عقلانية في هندستها، عادلة في توزيع سلطتها.

 

لذلك، فإن كل إصلاح لا يُعيد تعريف المواطنة على أساس مدني جامع، هو إصلاحٌ هشّ، يتجمّل فوق ركامٍ متحرك.

 

ومن دون إعلام حر يرافق هذه التحولات، ستبقى الدولة الموعودة مؤجلة. الإعلام ليس تفصيلاً، بل صوت المرحلة. وحين يحتكر الخطاب من يرى في التنوع تهديداً، تنمو الأكاذيب في تربة الجهل. لذلك، المطلوب ليس إعلاماً ينقل، بل إعلام يُضيء، يُنقّب، يُشكّك، ويؤسس لرأي عام نقدي لا غوغائي.

 

أما المجتمع الدولي، فليس بعيداً عن هذه اللحظة. دعمه لا يجب أن يكون لفصيل أو عقيدة، بل لمنظومة تحترم الإنسان وتُعيد لسوريا سيادتها ومشروعها كمكانٍ للعيش لا للموت المؤدلج. دعم الدولة المدنية ليس مِنّة، بل مصلحة استراتيجية إقليمية.

بالنهاية….

 

سوريا، إذا لم تكن لكل مواطنيها بالقانون والكرامة والمشاركة، فستبقى لجميع غربائها بالعنف والارتهان.