منذ سقوط النظام السابق، عُلِّقت الآمالُ على أن تكون المرحلة الانتقالية بوابة نحو دولة ديمقراطية مدنية، تنهي عقوداً من القمع والتهميش، وتفتح الباب أمام عقد اجتماعي جديد يجمع كل السوريين. غير أن المشهد السياسي في سوريا اليوم يشير إلى مسار مقلق، يتمثل في صعود سلطة انتقالية لا تختلف في ملامحها وبنيتها عن النظام الذي ثارت عليه البلاد. 

ومنذ مؤتمر النصر، الذي منح الشرعية للسيد أحمد الشرع ونصّبه رئيسًا للبلاد، بات من الواضح أن جميع المراسيم والقرارات وغالبية التعيينات التي صدرت عنه أو عن إدارته تسير باتجاه واحد، وتحمل لوناً أيديولوجياً واحداً، ما يعزز القناعة بأن هذه السلطة تتجه نحو استبداد ديني منظم، يستند إلى تحالفات فصائلية وعقائدية تؤسس لشرعية تقوم على ما هو أبعد من التمثيل السياسي والمدني، متكئة على تبريرات دينية وخطاب شعبوي ومظلومية تاريخية تُستحضرُ لإسكات كل نقد. 

ما يدعو للقلق بشكل خاص هو أن هذا التوجه لا يبدو عارضاً أو مؤقتاً، بل واضحٌ أنّه مدعوم من بنى مؤسساتية حزبية ودينية، ويغذى عبر خطاب إعلامي ودعوي متكرر، وتمارس من خلاله السلطة نوعاً من الضبط الاجتماعي والأيديولوجي، شبيه في كثير من عناصره بما مارسه النظام السابق، وإن اختلفت اللغة والأدوات. 

لقد حصلت هذه السلطة على اعترافات دولية مشروطة، دون أن يكون من بين هذه الشروط بناء دولة مدنية أو الالتزام بالمعايير الديمقراطية. الغرب الذي كان في مرحلة ما يربط دعمه بأي التزام بمعايير الحكم الرشيد أو حقوق الإنسان، يبدو اليوم أكثر انشغالاً بالاستقرار حتى وإن جاء ذلك على حساب إعادة إنتاج أشكال جديدة من الاستبداد. فهو يتعامل مع حكام سوريا بأسلوب الاحتواء وفق شروط معلنة: وقف تصدير الفكر الجهادي خارجياً والاكتفاء به محلياً مع بعض التعديلات الشكلية، القبول بشروط البنك الدولي وتطبيق اقتصاد السوق الحر حتى لو غلف بمظاهر دينية، احترام صوري لحقوق الإنسان، تسليم الثروات للشركات الكبرى، الاعتراف الضمني بالتطبيع وخريطة أبراهام، استمرار الدعم مقابل مقابل الالتزام.  

في هذا السياق، يمكن ملاحظة تصاعد الفكر السلفي الجهادي في عدد من المناطق خصوصاً في الشمال السوري، وهو فكر لم يكن يوماً جزءاً من البنية الثقافية والاجتماعية للمجتمع السوري، لكنه يجد اليوم بيئة خصبة بفعل التهميش، وتغييب البدائل السياسية، والأهم، دعم بعض الفصائل التي تروج لهذا الفكر ضمن منظومة السلطة الحالية. 

وقد تجلى خطر هذا الفكر بشكل مأساوي في حادثة التفجير الإرهابي التي وقعت قبل أيام في كنيسة مار إلياس في مدينة دمشق، حين فجر أحد المتطرفين نفسه داخل الكنيسة، ما أدى إلى سقوط ضحايا أبرياء. ورغم أن السلطة سارعت إلى اتهام تنظيم داعش، فإنها تتجاهل أن العديد من الفصائل التي تنضوي تحت سلطتها أو خارجها تحمل الفكر المتطرف ذاته وتعمل على ترسيخه في المجتمع. 

السؤال الذي يطرح نفسه هنا: إذا كانت هذه السلطة لا تخضع لضغوط خارجية تجبرها على التغيير، وتنجح في تأطير الداخل بسياسات القمع أو الإغراء، فما هو السبيل المتاح للقوى الديمقراطية والتقدمية السورية؟ 

رغم كل الانتقادات التي يمكن توجيهها لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) ومشروعها السياسي، فإنها تظل من الجهات القليلة التي تطرح بوضوح خيار اللامركزية والديمقراطية، ضمن رؤية مدنية لسوريا المستقبل، وهي بخلاف كثير من الفصائل الأخرى، تمتلك مؤسسات مدنية، وتفتح المجال ولو جزئياً للنقد والمحاسبة. من هنا، فإن التفاوض معها، على أساس الاعتراف المتبادل والالتزام بمبادئ الدولة المدنية، قد يشكل مخرجًاً ممكناً من المأزق الراهن. 

 

ورغم أنّ كاتب هذه السطور لا يملك يقيناً بنوايا هذه السلطة، ولا يشارك التيار المتفائل بها ارتياحه الكامل، إلا أنّه لا يستطيع تجاهل الأصوات التي تقول إن السيد أحمد الشرع الرئيس السوري خلال المرحلة الانتقالية عازم على التغيير، وأنه ترك خلفه الفكر الجهادي الذي وُصم به في فترات سابقة. وإن صح هذا التحول، فإن التفاوض مع قسد لن يكون فرصة لسوريا فحسب، بل أيضاً اختباراً حقيقياً للشرع نفسه لإثبات تخليه عن نهج الإقصاء واعتماده خيار الشراكة السياسية، خاصة أن أي مواجهة عسكرية شاملة بين الطرفين لن تؤدي سوى إلى مزيد من الانقسام والاستنزاف، ولن ينتصر فيها أحد، وهذا ما يدركه الرئيس الشرع. 

إن ما نحتاجه اليوم ليس فقط تفكيك بنى الاستبداد، بل بناء بديل حقيقي، يؤمن بالتعددية، ويضع أسساً صلبة لسوريا جامعة لكل مواطنيها ومواطناتها. وهذا البديل لن ينشأ دون شجاعة الاعتراف بالواقع، والتخلي عن أوهام المرحلة الانتقالية التي تستخدم لتبرير كل انحراف، وفتح حوار وطني شامل مع كل القوى التي لا تزال تؤمن بالديمقراطية كحل وحيد. 

سوريا لم تكن يوماً إلا لكل أهلها، بجميع قومياتهم وأديانهم ومذاهبهم وطوائفهم، ويجب أن تبقى كذلك. ويبقى الأمل قائماً، لا في السلطة الحالية، بل في وعي السوريين والسوريات، وفي قدرة القوى المدنية على تجاوز خطاب الكراهية والانقسام، وبناء جسور مع كل من يسعى إلى دولة قانون، لا دولة سلاح أو فتوى، وربما تكون المفاوضات مع قسد، رغم تعقيداتها، أحد هذه الجسور. 

 

في 24/6/2025 

زهير السهو