بدأ نظام الاستبداد في سوريا مع انقلاب 8 آذار 1963، وعزّزه حافظ الأسد وابنه بشار منذ العام 1970 على مدار أربعة وخمسين عامًا رتع فيها الظلم والاستبداد بالبلاد واستباحها طولًا وعرضًا.
نهجَ الأبُ طرقًا كثيرًا بينها العنفُ الرهيب، لكنّه أبقى على توازنات داخلية وأخرى خارجية سمحت له بتوريث الجمهورية لابنه واتبّع بشّار طرقًا وأساليبًا مختلفة، فدمّر القاعدة الاقتصادية التي حافظ عليها والده بوصفها شبكة أمانٍ من نفاد صبر الطبقات الفقيرة والمعدمة، ومارس عنفه خارجيًا باغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري ومجموعة من السياسيين وقادة الرأي اللبنانيين، ثم التحق كليًا بالمحور الإيراني وارتهن له وقطع كثيرًا من الجسور التي بناها والده مع السعودية ومصر والعرب عمومًا ولم يكن للعمل السياسي أو التشاور الوطني أي مكان في سوريا البعث بداية والأسد نهاية، ففي عقيدتيهما لا مكان للسياسة أو للحوار.
تغيّر الأمر مع انطلاقة الثورة السورية في آذار 2011، فدخل السوريون والسوريات في السياسة زرافاتٍ ووحدانا، وبدأ الحجيج السوري إلى الشأن العام أكثر مما كان عليه في أوج المرحلة الديمقراطية التي عاشها الشعب بتفاوت ما بين مرحلة الانتداب وخلال عهد الاستقلال حتى الوحدة مع مصر وبنجاح الثورة بعد أربعة عشر عامًا من الصمود الشعبي والمعاناة الرهيبة والحرب الطاحنة، وبعد هرب الأسد الذي كان يظنّ نفسه ملكًا متوجًا حسب توصيف الصحف الإسرائيلية وحسب لغة البعث التمجيدية التي رفعته ووالده مصافّ الآلهة، يجب دحر ما خلّفه النظام من أيدلوجية طائفية، ويجب ألا نسمح بأن يكون في سوريا بعد اليوم أي من آثاره وإرثه النتن، أو من فكره وعقليته التي قامت على التأجيج الطائفي والتوترات التي كانت من أهم أسباب بقائه في الحكم وسمحت له بجني الثروات وسحق المواطنين والوطنية السورية.
لتذهب تلك العقود الخمسة بفسادها ودمارها وبافتقارها لفكرة التغير إلى الجحيم، فاليوم، وأمام الحدث الكبير التي تشهده البلاد بقي الشعب السوري متعطشًا للعمل السياسي والمدني الذي كان محرومًا منه طوال سنوات الحكم البائد وها نحن الآن أمام جملة من التحديات، فسقوط النظام لا يعني أننا أمام مساحة من التغيير الجاد، فما تغلغل بنا ونما خلال العقود الخمسة الماضية كبيرٌ جدًا، ولا زال يشكل خطرًا على السوريين أجمعين. إنّ التخوف الحالي من استبدال نظام قمعي بنظام مشابه له قامعٍ للحريات، وبشخصيات أخرى وأيدلوجية دينية مختلفة وحلفاء إقليميين ودوليين جدد، هو أمر واقعي ومشروع.
– فما الحل الممكن تجاه هذه الإشكالية؟
– وكيف لنا أن نبني وطنًا للجميع، وطنًا موحدًا ذو سيادة؟
– كيف نصيغ أسسًا وطنية لجميع أطيافه؟
– وكيف يمكننا أن نبتعد عن الصراع الداخلي والحفاظ على السلم الأهلي بين مكونات هذا الشعب الذي عانى الأمرّين؟
– كيف يمكن التأسيس لدولة يتم فيها تداول السلطة بطريقة سلمية
– كيف يمكننا وضع دستور يفتخر به جميع السوريين والسوريات من جميع الطوائف والمذاهب؟
– وهل نستطيع بناء مثالٍ ناجحٍ لشعوب المنطقة يدار بطريقة ديموقراطية، وبالتشاركية الحقيقية لا بالتفرّد؟
بعد كل ما مررنا به في سوريا
خلال سنوات الثورة وما سبقها من عقود، لا بدّ من العمل بشكل حثيث على نقاطٍ حاسمة لا يمكن التأسيس الصحيح لبناء دولة المواطنة دون إنجازها ولعلّ أهم ما نحتاج العمل عليه اليوم هو مسار متكامل للعدالة الانتقالية، يتشارك فيه المجتمع مع مؤسسات الدولة القضائية ومؤسسات خاصّة يتم إنشاؤها خصوصًا بالاستفادة من تجارب الشعوب المختلفة، ولا بدّ من الاعتراف بأن الانتهاكات قد شارك فيها الجميع على اختلاف درجات ذلك ومسؤولياتهم وحجم انتهاكاتهم.
يجب أن يتضمن مسار العدالة الانتقالية مسائل إعادة تأهيل مؤسسات الدولة وفرز الموظفين وتخليد الذكرى، ويجب أن يتم ذلك كلّه في إطارٍ واضحٍ يأخذ احتياجات الضحايا بالدرجة الأولى من الرعاية والاهتمام. لقد أضعنا فرصةً مهمةً عندما حوّلنا المؤتمر الوطني عن جادة الصواب، فبدلًا من جعله مؤتمرًا تأسيسيًا لإعادة كتابة العقد الاجتماعي والعهد الوطني السوري، حولناه لمؤتمر حوار تمّ سلقه على عجلٍ ليصدر توصيات غير ملزمة. وأهدرنا فرصة الإعلان الدستوري أيضًا، فجاء نصًا معيبًا لا يلبي الطموحات.
– فهل نستثمر فرصة الحكومة الانتقالية؟
– هل نسلك نهجًا جديدًا في وضع قانون عصري للأحزاب وآخر للانتخابات؟
هذا كله في رجم الغيب، وننتظر المستقبل ليخبرنا بما نجهل الآن..