قبل سنوات، خرج السوريون يطالبون بالحرية والكرامة، واليوم يقفون وسط ركامها يتساءلون: هل هذه هي الثورة التي حلمنا بها؟ لم نعد نرى في السويداء اليوم ثمار الثورة، بقدر ما نرى نتائج الفوضى. ما يحدث ليس استثناءً، بل امتداد لمرحلةٍ انتزع فيها الرأس، وبقي الجسد في ارتعاشه الأخير. بعد أكثر من سبعة أشهر على سقوط النظام، لا تزال البنادق مشرعة في كل اتجاه، لا قانون يضبط، ولا دولة تردع، ولا جيش يُحتكم إليه.
وحدها الأنظمة التي تؤمن بالسلاح وسيلةً للحكم، تتركه ينتشر بعد زوالها، كمن ينثر بذور السم في حقل مهجور. قال الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي: (يموت القديم ولم يولد الجديد بعد، وفي هذا الفراغ تظهر الوحوش.) وما نشهده اليوم هو ظهور هذه الوحوش بأسماءٍ شتى: فلول، فصائل، عصابات، ولجان شعبية جديدة لا سلطة عليهم إلا أهواؤهم.
من المسؤول؟ من ترك المدن بلا أمن؟ من سمح بعودة العصابات، هذه المرة بأسماء جديدة؟
المسؤولية، أولاً وقبل كل شيء، تقع على عاتق الحكومة الانتقالية التي تشكلت بعد سقوط نظام الأسد. هذه الحكومة، التي كان من أهم إنجازاتها يوم التحرير أنها لم تسفك الدماء، لكنها عجزت عن حماية هذا الإنجاز، فعاد القتل من نوافذ الفوضى، كما لو أن البلاد لم تتحرر قط.
عجزت هذه الحكومة عن تنفيذ أول تعهداتها: ضبط السلاح، توحيد القيادة، وتأسيس جيش وطني يخضع للسلطة المدنية. عوضاً عن ذلك، نشهد اليوم تكاثراً للفصائل المسلحة التي يفترض أنها انضمت نظرياً إلى الجيش السوري الجديد، لكنها عملياً ما تزال تتحرك بمزاج قادتها وولاءاتهم المحلية وخلافاتهم المناطقية.
وزير الدفاع لا يمل من تكرار مهلة العشرة أيام لتسليم السلاح، وكأن البلاد تنتظر معجزة تنبت في فراغ. أما الرئيس المؤقت، فلديه ما يشغله ترتيبات السياسة وتثبيت أركان سلطته، بينما تترك المدن رهائن للخوف، ويترك الناس ليحتموا بجدران منازلهم أو يفروا منها.
ما لم يُحصر السلاح بيد جيش وطني حقيقي، وما لم تتوقف الفصائل عن تصرفها كقوى أمر واقع، لن يكون هناك استقرار. فكل فصيل يحمل السلاح خارج مظلة الدولة يجب أن يُجبر على تسليمه، وهذا لا يتحقق إلا بوجود جيش وطني مستقل عن الولاءات والجهات والمرجعيات، يمثل السوريين كافة، لا سلطة واحدة أو منطقة واحدة.
أما التحريض والتخوين، فلن ينتهيا ما لم يشعر الناس أن هناك دولة تحميهم، لا فصائل تسيطر عليهم. نحتاج إلى عدالة حقيقية، وسلطة تحاسب، لا سلطة تحصن نفسها بالصمت والتبرير.
ما حدث في السويداء من جرائم وانتهاكات وتصفية حسابات عشائرية، واختطاف واغتيالات، ليس سوى ثمرة مرة لانهيار الدولة وتفكك السلطة. لا أحد يشعر بالأمان، ولا أحد يثق بوجود جهة تحميه. غابت الدولة، فحضر الخوف.
لقد كان ما جرى هناك مرعباً بكل ما تعنيه الكلمة. شاهدنا مقاطع وصوراً يندى لها الجبين: أناس يُسحبون من بيوتهم، يُضربون ويُعتدى عليهم، وآخرون يُقتلون في الشارع أمام مرأى الناس وعدسات الكاميرات، وجثث تُعلق على مداخل المدن، كأنها رسائل رعب معلّقة في الهواء. لم يعد المشهد بحاجة إلى تقارير حقوقية أو لجان تحقيق. كانت الجريمة تبث مباشرة.
وفي ظل ما جرى، لا بد من توجيه سؤالٍ واضح: أين كانت العشائر؟
وأنا هنا لا أعمم، لكن كثيراً من العشائر التي تباهت بـالنخوة والكرامة، لم نر لها موقفاً حاسماً أمام جرائم الخطف والقتل والبراميل والفوضى. أين كانت نخوتها حين قُتل أبناؤها الثوار؟ بل أين كانت يوم اصطفت، في بعض المناطق، مع القاتل لا مع المقتول، ورفعت أعلام الدولة على جثث أبنائها؟
شاهدنا ما فعلته فوضى السلاح في الساحل السوري. مجازر ارتُكبت هناك، انتقامات عبثية أُلبست رداء الثأر والعدالة الثورية، بينما هي ليست إلا فصولاً أخرى من جريمة أعمق: ترك البلد بلا دولة، بلا قانون، بلا محاسبة. ما حدث في قرى الساحل من قتل وتنكيل كان صادماً، ومخالفاً لكل ما نادت به الثورة من حرية وكرامة. تلك المجازر لم تُواجه بإدانة حقيقية، ولا بمحاسبة شفافة.
ولو أن السلطة حاسبت من ارتكب انتهاكات موثقة تحت سلطتها، لربما كان بالإمكان تفادي ما جرى لاحقاً. فالذي يصور نفسه وهو يرتكب الجريمة لا يحتاج إلى لجنة تحقيق، بل إلى توقيف فوري. لكننا رأيناه يرتكب الانتهاكات نفسها في السويداء، بعد أشهر قليلة.
الدم المسفوك في سوريا اليوم لم يعد يحمل لوناً واحداً أو جهة واحدة. الأبرياء يُقتلون على الهوية، والقتل الطائفي يُبرر بمنطق الثأر. وشهداء الأمن العام.. من الذين رفضوا الانجرار للفوضى.. سقطوا لأنهم تمسكوا بفكرة الدولة وسط الخراب، فكان جزاؤهم الرصاص.
نعم، في صفوف الأمن العام كما في سواها، هناك من انزلق إلى العنف أو الفساد، لكن السكوت عن مقتل الشرفاء منهم هو تواطؤ مع الفوضى، وخيانة لقيم الثورة نفسها. كل قطرة دم تُراق بلا عدالة، تسلب من الثورة معناها، وتمنح القتلة الجدد شرعية السلاح الذي رُفع يوماً بوجه قاتل واحد.
لقد صار الانفلات الأمني أداة أخرى للهيمنة، بدل أن يكون عارضاً لمرحلة مؤقتة. تُركت الساحات بلا ضوابط، وتحول الخوف من أجهزة المخابرات إلى خوف من جماعات مسلحة لا رقيب عليها. والنتيجة: سلطة تُمسك بالحكم، لكنها عاجزة عن الحكم. أو لعلها تتقصد هذا العجز، ليبقى المواطن مشغولاً بأمنه الشخصي، غير قادر على المطالبة بأي عدالة أو مساءلة.
هل الحكومة قادرة على فرض الاستقرار؟ هل تمتلك الإرادة لذلك؟ لا نعلم. ما نعلمه أن هذا الانفلات ليس مجرد عرض، بل أداة حكم غير معلنة. حين يخاف المواطن من السلاح، يصمت. حين تغيب الدولة، يصبح من السهل السيطرة عليه باسمها. وهكذا، يتحول الأمن من حقٍ إلى امتياز، ومن واجب الدولة إلى وسيلة ابتزاز.
ربما لهذا كتب المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه: لا يمكن أن تبني جمهورية بالبارود وحده؛ البارود يفتح الأبواب، لكنه لا يحرسها من الداخل.
لقد أسقط السوريون الأسد، لكنهم لم يسقطوا النظام. سقط الوجه، وبقيت البنية: سلاح منفلت، إعلام موجه، نخبة حاكمة منشغلة بتمكين حكمها.
السؤال اليوم ليس فقط عن السلاح، بل عن النية السياسية الحقيقية: هل هناك إرادة لبناء دولة مدنية؟ أم أن الفوضى جزء من الخطة، وسيلة لتأجيل الاستحقاق الأكبر: العدالة، المحاسبة، التمثيل الحقيقي؟
ما لم تُحسم هذه الأسئلة، ستبقى سوريا عالقة في فجوة بين زمنين: زمن الاستبداد الذي سقط، وزمن الدولة الذي لم يولد بعد. وكم هو مرعب هذا البرزخ حين تكون البندقية فيه أقوى من الدستور.