إنّ العمل السياسي في سوريا لا يزال محكوماً بتعقيدات عميقة وبنيوية، تجعل من أي محاولة لبناء مسار وطني فعّال محفوفة بالصعوبات والمخاطر. من أبرز هذه التحديات، وأكثرها إلحاحاً، الفقدان المزمن للاستمرارية، وغياب النتائج العملية التي تُشجع المواطنين على الانخراط والاستمرار في الفعل السياسي والمدني.
لقد اعتاد السوريون، نتيجة عقود من القمع والتهميش والإقصاء، على الربط بين الفعل السياسي والنتيجة السريعة. وحين لا تأتي النتائج بالسرعة المتوقعة، خصوصاً في ظل واقع سياسي مأزوم وبيئة إقليمية ودولية متشابكة، تنشأ موجات من الإحباط والانسحاب الجماعي من الفضاء العام. في هذا السياق، رأينا تيارات وتكتلات تنشأ فجأة، ثم تخبو أو تتفتت بسرعة، لا بسبب انعدام النية أو الوطنية، بل بسبب افتقارها للاستمرارية، وللرؤية الطويلة النفس، وللصبر السياسي المطلوب في مثل هذه الظروف.
في الحالة السورية، لا يمكن لأي مشروع سياسي أن يحقق نتائج حقيقية ما لم يكن قائماً على مبدأ الديمومة، والعمل التراكمي، والرهان على المستقبل لا على ردود الفعل السريعة. السياسة في سوريا اليوم تحتاج إلى رجال ونساء مستعدين لتحمّل ضريبة الوقت، وضريبة الصمود، حتى في وجه اللاجدوى الظاهرة أحياناً.
ومن جهة أخرى، فإن المناخ العام في البلاد، بما يحمله من انقسامات سياسية وطائفية ومناطقية، يجعل من النشاط في الشأن العام – سواء في مجاله السياسي أو المدني – مغامرة حقيقية. فالمواطن/الفاعل السياسي يجد نفسه محاصراً بين معسكرات متنازعة في الرؤى، ومتضادة في الخطاب، لدرجة يصبح معها إرضاء الجميع مهمة شبه مستحيلة. وهذا ما يؤدي إلى اختزال الموقف الوطني، أحياناً، في الولاء لهذا الطرف أو ذاك، بدل أن يكون الولاء للوطن ككيان جامع، وللمصلحة العامة التي تتجاوز الأفراد والتيارات.
في هذه المعادلة المعقدة، يصبح السياسي أمام خيارين: إما أن يُرضي أحد المعسكرات، فيغضب الآخر، أو أن يحاول الوقوف في منطقة وسطى متوازنة، فيُتَّهم بعدم الحسم أو التذبذب. غير أن الواجب الوطني يُحتم علينا ألا نُجامل على حساب الوطن، وألا نكون أسرى لردود الفعل الشعبوية، بل أن نتمسك بالحقيقة، ولو كانت مُرّة، وبالاعتدال، ولو كان مُكلفاً.
ومع ذلك، فإن ما يمنح الأمل ويُضيء الطريق هو أن السوريين والسوريات، رغم كل الجراح والانقسامات، ما زالوا يحملون هوية وطنية سورية راسخة. قد تكون هذه الهوية اليوم في حالة أزمة، وقد يشوبها الالتباس، لكنها لم تندثر. ما زالت “سوريتنا” حاضرة، وغالبة، وممكنة، وهي الأساس الذي يمكن أن ننطلق منه لبناء مشروع وطني جامع، عابر للهويات الفرعية، سواء كانت طائفية، أو مناطقية، أو حزبية، أو أيديولوجية.
إننا بحاجة اليوم إلى إعادة تعريف الوطنية السورية على أسس جديدة، أكثر عدلاً، وأكثر شمولاً، وأكثر استيعاباً لتنوعات المجتمع السوري. وهذا يمرّ عبر الاعتراف المتبادل، والقبول بالاختلاف، والانفتاح على كل السوريين دون استثناء، ما داموا يؤمنون بوحدة سوريا، واستقلالها، وكرامة شعبها.
لقد دخلنا، كجيل جديد، مرحلة تاريخية مفصلية، لم نختر ظروفها، ولكننا مدعوون إلى التعامل معها بمسؤولية عالية. إنّ التغيير المنشود لن يأتي من الخارج، ولا من النوايا الطيبة وحدها، بل من عمل منظم، مستمر، وشجاع. ومن التزام أخلاقي عميق بأن نقف مع من يعمل بصدق، وأن نُصوّب من يخطئ، لا من باب العداوة، بل من باب الأمانة الوطنية.
نعم، يمكننا أن نتبنى الموقف المعتدل المتوازن، الذي يرفض الإقصاء، ويقاوم التبعية، وينحاز إلى الحقيقة، حتى لو لم تكن شعبوية. هذا هو السبيل نحو سوريا التي نريد: سوريا حرّة، موحدة، مدنية، عادلة، تتسع لجميع أبنائها، وتفتح ذراعيها لكل من يؤمن بها وطناً نهائياً، لا مجرد ساحة صراع